تأثر الكاتب الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز بالبيئة التى نشأ فيها. لأسباب ترجع إلى عمل والده، تربى ماركيز في كنف جَده، عسكرى سابق ألهمه العديد من الشخصيات العسكرية مع حكايات ممزوجة بالخيال شحذت أفكاره. حكت روايته (مائة عام من العزلة) جزءً من حياة جده الشخصية، فيما روت رائعته (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) عذاباته الشخصية وسخريته اللاذعة أيضاً.
أيضًا، لم تملك الجدة ما تعطيه للطفل الصغير سوى حكايات مخلوطة بتوابل الأساطير توارثتها عبر أجيال متعاقبة من الفقراء والمهمشين والحالمين، فتداخلت مع الواقع أو اسُتخدمت عن عمد للتمسك بالأمل والتعامل مع واقع خشنٍ وصعب. ومع الوقت صار التمييز بين الخرافة والحقيقة مستحيلا.
بيئة بدائية تبحث عن مبرر ووسيلة لفهم ما حولها، ومع غياب العلم وَجَدَت فيها الخرافات المناخ المناسب كي تتخَمر وتكبر، فسر بها البسطاء هطول المطر وموجات الحرارة المرتفعة والمنخفضة، وكيف يتقلب البهلوانات في الهواء دون أن يسقطوا مصابين، وكيف يضع الساحر فكيه على الطاولة فيتكلمان فإذا أعادهما إلى فمه يصمتان.
أيضاً، رصد ماركيز انسجام التناقض بين العلم والخرافة، من خلال طبيب تعلم في أوروبا وعندما نزل بلده، كولومبيا، وجدهم يكافحون الكوليرا بضرب قذيفة مدفع كل ربع ساعة في المناطق الموبوءة بدعوى أن رائحة البارود تطهر الجو، فحاول قدر طاقته مكافحة الجهل قبل المرض، لكن ذلك لم يغير إيمان الطبيب الشديد بأن وضع أدوات المائدة متقاطعة بعد الأكل كفيل بجلب الأرواح الشريرة. في هدوء يعلق على لسان فلورينتو آريثا، بطل روايته (الحب في زمن الكوليرا)، قائلاً (تتوارث الأسر الأساطير والخرافات دون تفكير وتقدسها وتعمل بها ما لم يثبُت عكسها).
في ذات الرواية يصف جابريل نزول البطريرك القرية ضمن جولته الرعوية السنوية متفقداً أحوالها ومجدداً العلاقة بين أولئك الريفيين البسطاء والكنيسة، واجهه عند مدخل القرية حشد هائل من سكانها وسكان القرى المجاورة، اكتظت الشوارع الضيقة بأولئك العَجَزة والمعوقين المتلهفين للمسة سحرية تبدل حالهم.
حيال الهرج والمرج، تَشبث البطريرك بسرج بغلته البيضاء ورِكَابها الـمُذهب مخافة أن يقع أمام إصرار حشود المواطنين على طلب البركة. وهنا يمارس ماركيز مهارته الأدبية ويفاجئنا أن الفقراء وأصحاب العاهات تركوا البطريرك وراحوا يتمسحون ببغلته، التى ذاع صيتها بقدراتها الخارقة على شفاء الأمراض المستعصية، تاركين البطريرك وحيدًا حائرًا.
إلى جانب ذلك، لا يفوت ماركيز دس لمحاته الساخرة بين طيات سطور رواياته كردود فعل عفوية، متأثراً بنشأته في مناخ سياسي معقد مليء بالانقلابات والاعتقالات والديكتاتورية والقمع وحظر التجوال والحرب الأهلية. في روايته (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، توفي رجل بالقرية فلم يغتم أهله لموته قدر غمهم وحيرتهم في مدى جواز مرور الجنازة، وهى في طريقها إلى الكاتدرائية للصلاة عليه، من أمام مركز الشرطة، حيث أعلنت الدولة حالة الطوارئ ومنعت التجمهر.
وفي سخريته من امتلاء الصحف المحلية بأخبار أوروبا وتجاهل ما يدور بالبلد، يعلق على لسان الكولونيل المتقاعد قائلاً، (منذ فُرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا .. من الأفضل أن يأتي الأوربيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذى يجرى في بلده).
بحرفية، استطاع ماركيز قهر خوف أبطال رواياته، انطقهم بالسخرية الـمُرة وأطلق ألسنتهم دون حدود، صنع من السخرية سيفاً للتمرد، يقول الكولونيل تعقيبًا على قرارات البلدية (هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات).